سورة الجن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجن)


        


{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)}
القاسط الجائر، والمقسط العادل، وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء، فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق، وعن سعيد بن جبير: أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول في؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالماً مشركاً، وتلا لهم قوله: {وَأَمَّا القاسطون} [الجن: 15] وقوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] {تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي قصدوا طريق الحق، قال أبو عبيدة: تحروا توخوا، قال المبرد: أصل التحري من قولهم: ذلك أحرى، أي أحق وأقرب، وبالحري أن تفعل كذا، أي يجب عليك.
ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا:


{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}
وفيه سؤالان:
الأول: لمَ ذكر عقاب القاسطين ولمْ يذكر ثواب المسلمين؟
الجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى: {تَحَرَّوْاْ رَشَداً} [الجن: 14] أي توخوا رشداً عظيماً لا يبلغ كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
السؤال الثاني: الجن مخلوقين من النار، فكيف يكونون حطباً للنار؟
الجواب: أنهم وإن خلقوا من النار، لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحماً ودماً هكذا، قيل: وهاهنا آخر كلام الحسن.


{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير: قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: (أن) مخففة من الثقيلة والمعنى: وأوحي إليَّ أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا.
قال الواحدي: وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل ولا السين في قوله: {أَن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} [طه: 89] و{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: 20].
المسألة الثانية: الضمير في قوله: {استقاموا} إلى من يرجع؟ فيه قولان: قال بعضهم: إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقال آخرون: بل المراد الإنس، واحتجوا عليه بوجهين:
الأول: أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مجرى قوله: {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
وأقول: يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة.
المسألة الثالثة: الغدق بفتح الدال وكسرها: الماء الكثير، وقرئ بهما يقال: غدقت العين بالكسر فهي غدقة، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغيث والمطر، والثاني: وهو قول أبي مسلم: أنه إشارة إلى الجنة كما قال: {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25].
وثالثها: أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا.
المسألة الرابعة: إن قلنا: الضمير في قوله: {استقاموا} راجع إلى الجن كان في الآية قولان:
أحدهما: لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ واتقوا} [المائدة: 65] وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأَكَلُواْ} [المائدة: 66] وقوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ} [الطلاق: 2، 3] وقوله: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ} [نوح: 12] وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني: أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق، ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] واختار الزجاج الوجه الأول قال: لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} فهو كقوله: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضاً ابتلاء واختباراً حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا، وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان، وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس، فالوجهان عائدان فيه بعينه وهاهنا يكون إجراء قوله: {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل.
المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ} على أنه تعالى يضل عباده، والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال: فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال، واستدلت المعتزلة باللام في قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ} على أنه تعالى إنما يفعل لغرض، وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله. وقوله تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} أي عن عبادته أو عن موعظته، أو عن وحيه. يسلكه، وقرئ بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذاباً، والأصل نسلكه في عذاب كقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] إلا أن هذه العبارة أيضاً مستقيمة لوجهين:
الأول: أن يكون التقدير نسلكه في عذاب، ثم حذف الجار وأوصل الفعل، كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] والثاني: أن يكون معنى نسلكه أي ندخله، يقال: سلكه وأسلكه، والصعد مصدر صعد، يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب لأنه (يصعد فوق طاقة) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، يريد ما شق علي ولا غلبني، وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعداً جبل في جهنم، وهو صخرة ملساء، فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها، ثم يكلف الصعود مرة أخرى، فهذا دأبه أبداً، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 17].
النوع الثالث: من جملة الموحى قوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8